ن تُعجب رواية بهاء طاهر – الفائزة بأول جائزة بوكر عربية – مصلحة الآثار المصرية، كما لن تُعجب الكثيرين، فالحق يُغضب سامعه. الحدثُ الرئيسي في واحة الغروب مبني على واقعة تدميرُ معبد أم عبيدة الشهير في واحة سيوة المصرية عام 1897، ومن هذه الحادثة التي يذكرها المؤرخون بغير تفسيراتٍ – وبكثيرٍ من الحسرة لضياع ما كان يُمكن أن يكون مدفن الإسكندر الأكبر – يستقي بهاء طاهر رواية جميلة عن طبيعة الخيانة والسعي إلى الخلاص والعلاقة بين المُستعمر والمُستَعمَر.
تحكي واحة الغروب عن المأمور محمود عبد الظاهر الذي تُرسله الحكومة المصرية – حكومة الاحتلال الإنكليزي – إلى واحة سيوة القريبة من الحدود الليبية لجمع الضرائب المتأخرة على أهل الواحة، في حركة ترقية وعقوبةٍ معاً – لسببٍ تشير إليه الرواية من حين لآخر. هرباً من التهديد بالمحكمة العسكرية، ورغبةً في الابتعاد عن القاهرة التي تُذكر محمود عبد الظاهر بخيباته، فإنه يرتحل إلى الواحة المتمردة التي قتلت المأمور السابق له، ويصطحب معه في رحلته زوجته الإيرلندية كاثرين.
تُصر كاثرين على مرافقة زوجها لاهتمامها الشخصي بآثار سيوة، وسعيها لاستكشاف مقبرة الإسكندر الأكبر، ويُصبح هوسها هذا مصدراً للتوتر بينها وبين زوجها، ومبعث غضب أهل الواحة. ما جمع بين كاثرين ومحمود في البداية الاحتلال الإنكليزي لبلديهما، فالإنكليز يحتلون إيرلندا كما يحتلون مصر، ورغم حديثها بالإنكليزية، إلا أن كاثرين تمقتهم – وهم يمقتونها ويتمنون هلاكها في واحة سيوة، وما فرق بينهما إدراكهما المختلف لمفهوم الخلاص الفردي والجمعي، فبينما يبحث محمود عن خلاصه في الهم العام للشعوب المُحتَلَة والمُستعمَرَة والمُستَعبَدَة، تبحث كاثرين عن خلاصها في أطلال المعابد البائدة مُتجاهلة حقيقة الإسكندر البسيطة والأساسية: أنه كان طاغية يريد أن يوحد العالم كُله لعبادته. الإسكندر ليس خلاصاً، بل جلاداً آخر تبحث عنه كاثرين ومن يعاونها. يحمل محمود وكاثرين خيباتهما الشخصية وهزائمهما إلى سيوة آملين أن يجدا في الواحة خلاصهما من الشياطين الذاتية التي تُلاحقهما، غير أن شمس سيوة الحارقة تصرعهما، وتكشف كُل ما كان مخبوءاً. شمس سيوة تُذكِر بالشمس الإفريقية في رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد، وحديثه عن المُستعمِر الذي لم يتحمل الشمس فانتحر. الحقيقة في سيوة تدفع محمود إلى عملٍ مشابه.
في سيوة نفسها خلافاتٌ بين السيويين الشرقيين والسيويين الغربيين، ومؤامراتٌ متبادلة. المتآمر الرئيسي فيها الشيخ صابر، كبير الأجواد، وكبير شيوخ الشرقيين الذي يتحرك من منطلق كراهيته للغربيين وللمصريين – شعب سيوة الأصلي من شعوب الأمازيغ، ولغتهم السيوية واحدة من اللغات الأمازيغية – وللإنكليز معاً. ويقابله الشيخ يحيى، شيخ الغربيين، الذي تعب من الخلافات بين الشرقيين والغربيين، ومن الأكاذيب والألاعيب والحيل السياسية التي تستهلك الواحة في حربٍ مستمرة. يتشابه الشيخ يحيى مع المأمور محمود في إيمانهما بأن المخرج عملٌ ختامي جبار يُنهي منبع القلاقل: فناء إحدى العشيرتين عند الشيخ يحيى، وتدمير مصدر الاستعباد الثقافي لمصر عند المأمور محمود.
تتعقد أمور الواحة بزواج الشيخ معبد الشرقي من مليكة الغربية أجمل بنات الواحة وبنت أخت الشيخ يحيى، ولتقدمه الشديد في السن، فإن مليكة تترك بيته وتعود إلى بيت أهلها. توشك الحرب على أن تقع بين الشرقيين والغربيين لولا أن يموت الشيخ معبد، لكن موته يؤدي إلى مصيبة جديدة أمر. مليكة في الرواية رمز البراءة والطفولة الأزلية التي تذهب ضحية للحقد في العالم، وتسحقها (الحضارة) الغربية.
تصل فيونا، شقيقة كاثرين، إلى الواحة مع اليوزباشي وصفي نيازي لتتعقد حياة المأمور محمود أكثر، ويرى التآمر تحت أنفه فلا يبالي. زوجته كاثرين تنطوي على نفسها وعلى بحثها في المعابد رغم معارضة أهالي الواحة التامة لكل من يُحاول البحث عن الكنز المسحور في المعابد، أو من يحاول الاقتراب من المساخيط (المومياوات). يُساعد وصفي نيازي كاثرين في حملتها، ويُشجعها على الاستمرار فيها، من منطلق احتقاره الشديد للفلاحين ولثورة عُرابي، ومن منطلق إعجابه بالحضارة الغربية، وبالإنكليز الذين كانوا أول من نبه المصريين إلى آثارهم التي تفوق أهميتها أهمية الشعب نفسه. نيازي من محتلي مصر الذين يعتبرون أنفسهم سادتها، ويرفضون فكرة أن يكون للشعب (الفلاحين) حق في حكم الأرض، وهو ربيب الاستعمار الإنكليزي الذي يُبتَعث لتنفيذ سياساته التي يرفض محمود تنفيذها.
خاتمة الرواية متعددة الأصوات – التي تتجه فيها كل شخصية إلى قدرها بحتمية المأساة الإغريقية – فعل الاحتجاج الأخير على الفساد والخيانة والعنصرية والاستعباد، ومحاولة لكسر حصار الهزيمة الثقافية، وتذكير العالم بأن البشر أهم من الآثار التي تحولت إلى وسيلة جديدة لاستعباد الشعب وازدرائه. واقع الحال اليوم يقول إننا جميعاً – بعد قرنٍ – لا زلنا سجناء واحة الغروب حيث ستعمينا الشمس، وتأكل العقبان ما تفسخ منا.
- معلومات عن الرواية:
عنوان الرواية: واحة الغروب
تأليف: بهاء طاهر
الناشر: دار الهلال – دار الشروق
عدد الصفحات: 290
منقوووووووووووووول