في الزمن المضيء من تاريخ هذه الأمة ، عندما لم يكن هناك فوارق بين العرب كانوا يحملون قضاياهم معا ، فما يعني شعوب ما يسمى بلاد النيل كان يهم في سرائه وضرائه أهل الشام وأهل المغرب وأهل الحجاز ... فلا غرابة إذا أن تكون بعض المفاصل التاريخية في حياة الشعوب العربية علامات فارقة تجسد هذا الواقع ،
ففصلان تاريخيان في مصر كان فيهما لأبناء الشام دورا بارزا في تغيير مجرى الأحداث هما .. : سليمان الحلبي الذي قتل الجنرال فليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر وجول جمال الذي كان يحمل رتبة ملازم ثاني ، وكان انتسب إلى كلية الآداب في الجامعة السورية وأمضى فيها عاما دراسيا ، إلا أن أمنيته تحققت في سبتمبر – أيلول عام 1953 ، حين أرسل في بعثة عسكرية إلى الكلية البحرية المصرية وإلتحق برفاقه البحارة المصريين كقائد طوربيد في مواجهة الأسطول البحري الفرنسي – الإنجليزي – الإسرائيلي الذي كان يجوب البحر المتوسط إبان العدوان الثلاثي على مصر ويطلق نيرانه على المدن المصرية الآمنة ، وكان الأسطول البحري الفرنسي بقيادة المدمرة " جان بارت " وكانت حينها فخر الصناعات الحربية الفرنسية .
وحاول البحارة المصريون والسوريون بإمكانياتهم المتواضعة مواجهة هذا الأسطول الضخم ومشاغلته ونظرا لفارق العدة والعتاد ، فقد كانت المعركة أشبه بملحمة بطولية مشرفة توجها " جول جمال " بأن قاد مركبه الطوربيدي فدمرها تدميرا كاملا فغرقت بكامل طاقمها المكون من 88 ضابطا و2055 جنديا وبحارا مضحيا بذلك بنفسه كشهيد ليس من أجل سورية ولا من أجل مصر ولكن من أجل الأمة العربية وعزتها وكرامتها ..
وبمناسبة الذكرى الخمسين لإستشهاد جول جمال التي صادفت في الرابع من نوفمبر الماضي ، فإن التاريخ لم ينصف هذا الرجل البطل ولم يعطه حق تقدير ...
و( كلنا شركاء ) في محاولة منها لإستحضار إنتصاراتنا في زمن الإنكفاء وتأكيد قيمة العمل المقاوم ولو بامكانيات محدودة في وجه العدوان تلتقي شقيقة الشهيد دعد جمال وشقيقه ( عادل ) ليرويا قصة هذا الإستشهادي المبكر من أجل أمته وقضيته العادلة ...
تقول دعد جمال : " جول " ولد في الاول من إبريل ( نيسان ) عام 1932 في منزل بسيط بشارع المثنى بن حارثة بحي العوينة الشعبي بمدينة اللاذقية ، ووالدنا كان يعمل طبيبا بيطريا وهو من الوطنيين الذين شاركوا في الكفاح السوري ضد الإستعمار الفرنسي ، وكان " جول " أكبرنا ثم " أنا " ويلينا " عادل " ووالدي كان من حفظة القرآن الكريم كما إنني متعمقة بدراسة الدين الإسلامي ونحن عائلة مسيحية أرثوذكسية المذهب .
وبالعودة إلى " جول " فقد درس في مدارس مدينة اللاذقية وكان متفوقا على أقرانه ولما أتم المرحلة الثانوية عام 1952 رغب في أن يكون ضابطا في سلاح البحرية لكنه انتسب إلى كلية الأداب في الجامعة السورية وأمضى فيها عاما دراسيا إلا أن أمنيته تحققت في سبتمبر – أيلول عام 1953 ، حين أرسل في بعثة عسكرية ضمن 10 طلاب للإلتحاق بالكلية البحرية المصرية ونال في نهاية دراسته في مايو – أيار عام 1956 شهادة البكالوريس في الدراسات البحرية ، وكان ترتيبه الأول على دفعته ومنحه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ساعة يد ذهبية قيمة ( موجودة لدينا حتى الأن ) تقديرا لتفوقه وصافحه وهو يبتسم مشجعا ، وقال جمال عبدالناصر ل " جول " حينها " يا جول أود أن أرى كثيرين مثلك من ابناء العروبة .
ويضيف عادل جمال : بقي " جول " وافراد البعثة السورية في مصر بعد التخرج وفي هذه الفترة استوردت مصر عدد من الطوربيدات البحرية ، وطلبت الحكومة السورية أنذاك من أفراد البعثة العسكرية السورية بأن يلتحقوا للتدرب على هذه الطوربيدات وفي هذه الأثناء حصل العدوان الثلاثي على مصر وقد لبى " جول " نداء الواجب القومي للدفاع عن مصر ، وحينما رفض المسؤول عن العمليات البحرية طلبه لأنه ليس لديه تعليمات فيما يتعلق بالضباط السوريين الذين هم قيد التدريب ... أجابه " جول " : لم يعد هناك ضباط سوريون وضباط مصريون سواء أكانوا قيد التدريب أم في الميدان ، كلنا عرب ، معركة مصر هي معركة سورية وهي معركة كل عربي ولكن المسؤول المصري استمر في رفض طلبه لأنه لا يتحمل مسؤولية إيفاده في مهمة فدائية ... فقال " جول " : أنا لا أناقش في مسؤوليات القيادة وإنما أبحث المسؤولية فيما يتعلق بشخصي ، أنا في بلادي ... مصر بلادي مثل سورية تماما وحين أخدم في مصر فكأنما أخدم في سورية ، القضية واحدة وأنا مصمم وأفضل أن أعمل فورا .
وتابع عادل جمال : ( و طبقا لشهادات من كانوا بقرب المعركة ) ...وفي الرابع من نوفمبر عام 1956 كانت هناك 3 زوارق طوربيد تلاحق السفن الحربية المعادية ، وفي مياه البرلس كان من نصيبها المدمرة " جان بارت " التي فتحت نيران مدافعها ولكن الزوارق استمرت في اندفاعها نحو الهدف واندفع " جول " بزورقه نحو المدمرة بأقصى سرعة ولم تمض بضع ثواني حتى دوى إنفجار مخيف وإرتفع في السماء عمود من المياه وصاح أحد بحارة الزورق الثاني " إنها نهاية جان بارت "ورجع الزورقان إلى قاعدتهما وبقي زورق وحيد يرقد إلى جانب " جان بارت " فيه جول جمال ، فكان أول شهيد في عمليات مشتركة سورية – مصرية واللبنة الأولى في بناء الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 .
* عبدالحكيم عامر ينعى " جول " ...
وتقول دعد جمال : أن المشير أركان حرب عبدالحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة للدول العربية ( هكذا كان مسماه ) نعى شقيقي " جول " ... قائلا : سلام عليك يوم ولدت ، ويوم مت ، ويوم تبعث خالدا بين الخالدين ... أن مصر حكومة وشعبا تشارك عائلة البطل الشهيد بل تشارك سورية العزاء وتشاركها أيضا الفخر بابن من أبنائها في موته عظيما لا عنه حيا ..... وقد رد والدي على عبد الحكيم عامر ... بقوله : لقد استحق ولدي " جول " شرف تقليد جيد ( بكسر الجيم ) الوطن الأكبر بهذا العقد من الفخار وتوج رأسي بأكليل من الغار ... إني وأبنائي جنود لهذا الوطن إلى آخر قطرة دم من دمائنا .
* جمال عبدالناصر ... لم ينسنا ... وأظهر محبة لنا .
وتتابع دعد جمال : وأوفد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر مندوبا عنه وهو ( محمود رياض ) للأسرة في اللاذقية لتقديم عزاء مصر كلها والإعراب عن خالص تقديره للعمل البطولي الذي قام به الشهيد ومنحه وسام النجمة العسكرية المصرية وهو أعلى وسام عسكري مصري ، وأرسل الرئيس السوري الاسبق شكري القوتلي تحية إلى ابن سورية البار الذي رفع اسمها عاليا في معركة النصر وسجل أروع آيات البطولة والفداء وقرر أن يمنح الوسام الحربي السوري من الدرجة الممتازة وتسمى دورة عسكرية باسمه ... وان تسمى مدرستان ثانويتان إحداهما في دمشق والأخرى في اللاذقية باسم جول جمال وأن يطلق اسمه على شارع في دمشق وآخر في اللاذقية تخليدا لبطولته .
وزادت دعد جمال : وبالعودة إلى موضوع جمال عبدالناصر ... فعندما التقيناه أظهر محبة كبيرة لنا وكان رحمه الله يتذكر والدتنا باستمرار في عيد الأم وفي عام 1989 منحه الزعيم الليبي معمر القذافي وسام الفاتح العظيم من الدرجة الأولى تقديرا لبطولته ، كما أن القائد الخالد حافظ الأسد إلتقى والدنا في السبعينات خلال حفل تكريمي أقيم لأسر الشهداء وقال له عبارة جميلة للغاية ولكنني نسيتها .
وختم عادل جمال قائلا : أن نكبة فلسطين عام 1948 أثرت بشكل كبير على شخصية " جول " وقد لا حظنا عليه المرارة والحزن الشديد والعميق ... البعيد بسبب ما حل بالشعب الفلسطيني وتشريدهم من أرضهم وديارهم
كلنا شركاء قيل