لحظة من فضلك هل تريد أن تحيا
في خضم الأمواج المتلاطمة من التيارات الفكرية والعقدية، وفي خضم المدنية المرهقة وثورة الجسد وهزال الروح، يقف الإنسان حائراً يبحث عن طريق للخلاص، ومنفذ للنجاة، وسبيل يأنس إليه ويعيش في كنفه، موفور الكرامة مستريح البال.. مطمئن النفس.. ويتساءل بلهفة: أين أجد الحياة الطيبة والسعادة الحقيقة؟، أين أجد ربيع النفس وسلو القلب وبهجة الروح؟، أين أجد راحة البال وأنس الخاطر؟، أفي هذه الحياة الدنيا محل للسعادة أم هي دار للعمل والنصب والكدح؟!
الحياة في القرآن.. نظرات.. وتأملات:
إن هذه الحياة الدنيا خلقها الله جل وعلا للابتلاء والاختبار ليتميز العاملون {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [سورة الملك:2 ].
وهذه الحياة أنسها منقطع ولذتها فانية وراحتها يتبعها أتراح، وهي دار ممر لا دار مقر، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [سورة غافر: 39]، بل إن الاطمئنان إلى هذه الحياة الدنيا والرضا بها والإعراض عن الآخرة من صفات الغافلين {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [سورة يونس: 7].
فالحياة الدنيا مزرعة يحصد منها كل زارع ما ذراه، ويبقى قول الحق تبارك وتعالى أنها ليست محط الرحال بل هي دار للمرور، ونكدها أكثر من سعدها، قال تعالى مؤكداً هذا المعنى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [سورة الحديد: 20].
ومع هذا كله فإن ثمة حياة طيبة يستروحها المؤمنون، تصبرهم على ضنك العيش، وبؤس الدنيا، ونكد العشير، تبدلهم بالهم أنساً وبالضيق سعادة وحبوراً.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97].
وهذه الحياة المنشودة بها وصف زائد عن كونها حياة فهي حياة (طيبة).
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله مجلياً هذا المعنى: "الحياة الطيبة أول طريقها: أن تعرف الله، وتهتدي إليه طريقاً يوصلك إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة؛ فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيَتِه، ويزهد في التعلُّقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة".