ميرنا و خليل، و جرائم الشرف
أنا لست من المتابعين للمسلسلات أياً كانت بقدر متابعتي لردود أفعال شارعنا العربي على الأحداث التي تدور في هذه المسلسلات.
و لا أريد أن أكون ناقداً للأعمال الفنية فكبيرنا و صغيرنا صار ناقداً و هذا ليس بالأمر الغريب بالنسبة لشعوبنا التي تحاول أصطياد جميع الطيور و في النهاية تعجز عن صيد عصفور أو صرصور.
محاولات والد ميرنا و الأخ الأكبر و زوجها الذي يبدو أنه يعاني عجزاً جنسياً لقتلها، أو كما يقال عندنا نحن العرب غسل العار بالدم... هذه المحاولات ايقظت عندي ذكرة من ذكريات الطفولة البعيدة بطريقة ما، مثبتة بذلك لي أن الذكريات قد تنام نوماً عميقاً و لكنها لا تموت.
ذكرتني شخصية ميرنا بقصة حكتها لي أمي مفادها بأن فتاة من احدى قرانا قد وهبها الله جمالاً تحسد عليه بين بنات جنسها و هذا الجمال الذي بات وصفه على كل لسان جعل من كل شاب في قريتها ذلك العاشق الحالم بالظفر بها.
و قد كان الجمال في قرانا في طفولتي لاتظهرهه المكياجات أو أزياء عصرنا التي تجعل من جمال أي امرأة مشاعاً لدى كل الرجال، بل كان يتجلى في الوجه الذي لم يعرف سوى الماء و صابون الغار و الكحل الذي يصنع من زيت الزيتون أو الكحل الحجري مواداً للتبرج.
الغيرة دفعت فتاة لتهمس لأخرى بأنه يستحيل ألا تكون هذه الجملية على علاقة و لو عاطفية بأحد شباب القرية, و هذه الأخرى همسة لأخرى بأن جميلة القرية تحب فلان من الناس لترد عليها بأنها ربما شاهدتهما يتجولان في الكروم إن لم يكن هو فشاب آخر لم تميزه من بعيد.
و انتشرت شائعة بين نسوة القرية بأن أجمل جميلات القرية ما عادت فتاة و إنما هي امرأة.
و لكن كما تعلمون بين الإشاعة الكبيرة و الحقيقة الغير مؤكدة خيط رفيع قد لا يرى عندما يثار غبار الحمية العربية.
و بمرور بضعة أيام صارحت الأم والد أجمل الجميلات بما ينقل بين نسوة القرية و بالتواتر عن ابنتهما.. لقد كانت الأم مجبرة على هذه المصارحة و إلا ستكون ضحية غضب الزوج ( فورة الدم كما يقال).. و للأسف في تلك القرية الثقة تمنح كاملة للذكر و الشك و الارتياب كل ما يبقى للأنثى.
طلب الأب الغاضب ولديه الذي يفاخر بهما للتشاور الذي كانت نتيجته لابد من غسل العار الذي لحق بهم.
جلس الأخ الأكبر إلى أخته أجمل الجميلات و طلب منها أن تتجهز ليوم الغد فسيذهبون برحلة للتبضع من المدينة، و كانت زيارة فتاة قروية للمدينة سياحة بكل ما تعنيه السياحة ففرحت كثيراً.
كانت البغال و الحمير وسائل النقل الشائعة عند أهل القرى في تلك الفترة، فركبوا البغال قاصدين المدينة في الصباح الباكر.
لم يحمل الأخوين معهما المال للتبضع بل حمل الأخ الأكبر سكيناً سوداء بطول شبرين و كانت أمي تشير لي بيديها لأتخيل طول هذه السكين و تقول لي لو وقفت ذبابة على شفرت هذه السكين لقطعت أرجل هذه الذبابة، و لو ضرب بها عنق الثور لفصلت رأسه عن جسده، و هنا كنت أسرح بمخيلتي متصوراً هذه السكين اللعينة.
في الطريق كانت الأخت تتخيل أسواق المدينة و شوارعها و وجوه ناسها المرفهين و تفكر بالثياب المناسبة و الحذاء الذي ستتفاخر به أمام بنات القرية، في حين كان تفكير الأخ الأكبر كيف سينهي ما طلب منه و يعود إلى القرية بأسرع وقت ممكن.
في منتصف الطريق و عندما صارت الشمس في كبد السماء و اشتد حرها حان موعد رحيل الأخت عن هذه الدنيا.
و عند صخرة كبيرة نزل الأخ الأكبر عن ظهر بغله و صرخ بالأخ الأصغر أن يأتي بها جراً من شعرها و يطرحها على الصخرة..
كانت هذه اللحظات بالنسبة للفتاة مزيج من الوهم و الحقيقة، و التصديق و التكذيب، و الحيرة و الرعب.. كادت هذه اللحظات أن تفقدها عقلها و لكن السكين و صرخات الأخ و هو يخاطبها قائلاً: لا بد من غسل العار.. الناس يأكلوننا بعيونهم.. رؤسنا صارت بالطين.. هذا كله جعلها في إطار الواقع تعي و تدرك ما يجري.
أمسك الأخ الأكبر أخته من شعرها الطويل بإحكام و ذبحاها من الأذان إلى الأذن و أشارت أمي لي بأصبعها من أذنها اليسرى إلى اليمنى مروراً بالعنق و قالت بأن نافورة من الدم قد انفجرت لتصطبغ الصخرة باللون الأحمر و جثة الفتاة تنتفض كالدجاجة الذبيحة..
و عندما شبهتها أمي بالدجاجة الذبيحة فهمت ما جرى تماماً و استطعت تخيل ما جرى.. فمرات عدة في صباي ذبحت طيوراً بيدي ثم راقبتها و هي ترقص كما يقال من الألم.
إنه مشهد مؤلم.. و لكنه الحقيقة التي تتكرار ربما في اليوم آلاف المرات.
بعدما أنهى الأخ الأكبر المهمة الموكلة إليه قذف بجثة الذبيحة في حفرة بجانب الصخرة و طمرها بالتراب و عاد أدراجه إلى القرية.
لم تهتم أمي بالتفاصيل و هي تحكي لي الحكاية، فأهمية العرض و الشرف هي ما كان يجب أن استشعره و يكفي لهذا أسلوب التهويل في الرواية.
مرت الأيام و كبرت إلى أن بلغت الآن ما بلغت، و مما صادفني خلال حياتي و كرهته ما يسمى بجرائم الشرف.. فعندما تسفك الدماء لغسل العار لست مجرماً بل أنت الغيور الشهم الذي يجب منحه وسام القبيلة الذهبي.
و لهذا اشجع نفسي و غيري على التعري تماماً من كل العادات و التقاليد التي ما هي إلا خرق بالية مازال الكثير منا يصر على اتخذها أزياءً يفاخر بها أمام العالم الذي يكاد أن يموت من فرط الضحك علينا.
و إن سألت يضحك على من؟
سأجيب على أمة العشيرة و العشيرة.
ختاماً و بدون تطرف لو لم أكن من العرب لتمنيت أن أكون من العرب.