كانت صناعة الأواني النحاسية من أهم الصناعات في دمشق، وكان لها سوق يدعى سوق النحاسين في شارع الملك فيصل بدمشق، يهتم بصنع الأواني النحاسية اليدوية، وكان تجارها يستوردون صفائح النحاس من أوروبا، ويطرقونها في حوانيتهم، ويصنعون منها أواني مختلفة الأشكال حسب الحاجة. وبقيت هذه الصنعة رائجة ورابحة، وتدر مالاً وفيراً على أربابها
إلى وقت ليس ببعيد، فكان يؤم السوق أهل المدينة والضواحي، إضافة إلى أهل حوران، والمنطقة الجنوبية عموماً، و البدو الرحل في بادية ريف دمشق وغيرها، لابتياع لوازمهم من القدور والمراجل للحليب والتخمير والتجبين، وغير ذلك من الأواني النحاسية المختلفة.
يقول السيد "أبو محمد قشلان" – صاحب محل في شارع البدوي بدمشق و يعمل في المهنة لأكثر من أربعين عاماً - لقد فقدت هذه الصنعة مزاياها بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أحضر بعض التجار من أوروبا تقانات لصنع الأواني النحاسية، كالقدور والصحون والأدوات المنزلية المختلفة، وغير ذلك مما قلّص الحاجة إلى الأيدي العاملة، فترك الكثيرون من أرباب العمل هذه الصنعة، وعلى الأخص عندما بدأت أوروبا تصدر لبلادنا أواني الألمنيوم للطهي والغسيل والأدوات المنزلية ، أو من الحديد المصفح (التنك) أو من (التوتياء المدهون) ، ثم ظهرت في الأسواق بعد ذلك أنواع مختلفة من الأكواب والأطباق من المواد الصلبة غير القابلة للكسر، كما انتشرت صناعة البلاستيك، فأربكت هذه الصنعة وضيقت سبل الرزق على أربابها وحدت من عدد محترفيها، إلى أن نشطت الصناعات آلياً في سورية، وانتشرت المصانع مؤخراً بدعم رسمي فامتصت الأيدي العاملة وأعادت الحيوية لها من جديد.
يقول السيد "قشلان" : كان هناك قسم من سوق
النحاسين في دمشق مخصصاً لأرباب صناعة الصب والسكب (أي صهر النحاس وسكبه في قوالب تأخذ أشكالاً مختلفة)، وكان النحاس الأحمر والأصفر يصب في هذه السوق لتصنع منه أو من خلائطه وخلائط الرصاص آلات مختلفة، كآلات الزينة للخيل والعربات، وكان النحاس الأصفر يُصب لتصنع منه محابر الكتابة و(الهاون) والملاعق والشوك ومطاحن البن والمناقل والصواني والشمعدانات وملاقط النار)، كما كان يمزج النحاس بمقدار معلوم من القصدير بدلاً من الرصاص لتصنع منه النواقيس والأجراس والصنوج والآلات الموسيقية النحاسية ذات الصوت الجلي المدوي.
ويضيف السيد أبو محمد : لحرفة الصب والسكب ملحقات متعددة من الحرف الأخرى ،إذ تعتبر حرفة الصب والسكب النواة المحركة لنشاط حرف الخراطة، والنشر، والثقب، والتسوية، وصنع القوالب الخشبية، والرسم المهني والميكانيكي، إلى غير ذلك من الحرف والحرفيين المتممين لحاجاتها.
الزخرفة على النحاس:
أما الزخرفة على النحاس فيقول "قشلان" : فهي تعتمد اعتماداً تاماً على الخط والرسم الزخرفي، ولا بد لمحترفيها من أن يتقنوا الخط والرسم أولاً، ثم إنها كمثيلاتها من الحرف اليدوية الدقيقة تحتاج إلى التحلي بالصبر ودقة الملاحظة، أما المواد الأولية المستخدمة فيها فهي صفائح النحاس الأحمر والأصفر، بسمك يتراوح بين 7 – 8 دوزيم إلى 1,5 مم، ويتفرع عن هذه الحرفة، الحفر أو (النقش) والتجويف، وتنزيل الفضة والذهب، ثم الكبس، فالتخريق.
ونوه السيد
"أبو محمد" إلى عناية هذه الحرفة بالنقوش الزخرفية العربية، ورسوم الأشخاص، والحوادث التاريخية كالمعارك الهامة في تاريخ الوطن العربي، ورسوم كبار الشخصيات التاريخية، وغير ذلك من رسوم الطيور والسباع، وعلى الرغم من ضرورة إتقان الرسم والخط بالنسبة لأرباب هذه الحرفة فهي موزعة إلى اختصاصات على أفراد الورشة الواحدة، أو على عدد من الورشات بمعنى أن حرفياً ما قد يقتصر عمله على (التخطيط والرسم) وآخر على (تنزيل الذهب والفضة) وآخر على (التجويف)، وآخر على (النقش) وآخر على (التخريق) وهكذا، ونادراً ما تجتمع هذه الخبرات كلها لدى حرفي واحد، ما خلا تفهم الجميع لأصول (الرسم والخط) إضافة إلى اختصاصاتهم في مجال الحرفة.
و يرى "أبو محمد" أن أعمال الزخرفة على النحاس عديدة وواسعة وقديمة وستظل طالما ظل الحرفي السوري معنياً بتحقيق الغرض الجمالي إلى جانب الغرض النفعي لكل قطعة ينتجها، خاصة أن عمله الزخرفي لا يختلف كثيراً في دقته عن الدقة المطلوبة لحرفة الصياغة، إلا بضخامة القطع النحاسية بالنسبة للمصوغات الأخرى، وإن اختلف المردود المادي تبعاً لاختلاف قيمة الذهب والفضة عن النحاس بالطبع، أما الإخلاص والتفاني في العمل فلا يقل لدى أي حرفي عن آخر.
صناعة الدلال ومصبات القهوة والمكاحل والأواني النحاسية: يؤكد السيد قشلان أن هذه أيضا حرفة متوارثة ولكنها تقتصر على صناعة الدلال النحاسية للقهوة
وما شابهها، وهي على أنواع منها الدلال الصغيرة والكبيرة ومصبات القهوة العربية المرة ذات الموقد الداخلي، وبعض القطع التزيينية الصغيرة من نماذج المصبات والدلال والمكاحل وصحون السجائر النحاسية التي غالباً ما تكون سكباً أو صفائح مطروقة ومزخرفة.
أخيراً: نعتقد أن الحرفة لم تزل محافظة على انتعاشها وحيويتها، وما تزال منتجاتها منتشرة في أكبر معالم دمشق، ثريات جامع العثمان، أبواب وثريات جامع الأكرم وفي كثير من البيوت العربية القديمة، ومتاحف التقاليد الشعبية، وأسواق المدن السورية، وحوانيت الصناعات التقليدية.